الأربعاء، 30 يوليو 2008

كامب ديفيد: التوقيع المنفرد


كامب ديفيد: التوقيع المنفرد

مرت مصر بفترات مشابهة للفترة الحالية وخاصة أيام الحروب الصليبيبة حيث كانت أوروبا تحتل بعض المدن في فلسطين هي بيت المقدس وما حولها، ورغم التشابه الطفيف والاختلاف الكبير في أحوال الأمة إلا أن النظر لذكريات التاريخ قد يشير إلى المميزات والعيوب والمخاطر، وقد يوحي بما هو قادم في المستقبل ويرشدنا إلى ما قد وقع من صواب وخطأ

هل وقع حاكم مصر منفردا من قبل خلال فترة الحروب الصليبية على اتفاقية شبيهة بكامب ديفيد من قبل؟ وماذا كان مصير تلك الاتفاقية وتبعاتها؟ وما كان تأثيرها على الأمة؟

الواقع نعم، لم تكن كامب ديفيد هي الأولى في تاريخ مصر والأمة الإسلامية، تكررت تلك الاتفاقية من قبل في أيام الكامل، حيث كان الصليبيون يحتلون بيت المقدس وما حولها شبيه بما هو الآن إلا قليلا، إلا أن الحروب الصليبية الآن تستهدف الأمة الإسلامية في عمقها، من قبل استهدفت بيت المقدس وما حولها، يتحدث ابن الأثير عن تلك الاتفاقية التي سلم الكامل حاكم مصر بمقتضاها بيت المقدس للصليبيين بقيادة الملك فريدريك مقابل هدنة مدتها عشر سنوات لا يرسل الأروبيون خلالها أية حملات صليبية على المشرق فيقول: في هذه السنة أول ربيع الآخر تسلم الفرنج - لعنهم الله - البيت المقدس صلحاً - أعاده الله إلى الاسلام سريعا - وسبب ذلك - ما ذكرناه - سنة خمس وعشرين وستمائة من خروج الانبرور، وملك الفرنج من بلاد الفرنج داخل البحر إلى ساحل الشام ، وكانت عساكره قد سبقته ، ونزلوا بالساحل ، وأفسدوا من جاورهم من بلاد المسلمين ، ومضى اليهم ، وهم بمدينة صور طائفة من المسلمين يسكنون الجبال المجاورة لمدينة صور، واطاعوهم ، وصاروا معهم ، وقوي طمع الفرنج بموت الملك المعظَّم عيسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب دمشق ، ولمًا وصل الأنبرور إلى الساحل نزل بمدينة عتهَا ، وكان الملك الكامل صاحب مصر قد خرج من الديار المصرية يريد الشام بعد وفاة أخيه المعظم ، وهو نازل بتل العجول يريد أن يملك دمشق من صلاح الدين داود بن المعظم ، وهو صاحبها يومئذ، وكان داود لما سمع بقصد عمه الملك الكامل له ، قد أرسل إلى عمّه الملك الأشرف صاحب البلاد الجزرية ، يستنجده ويطلب منه المساعدة على دفع عمه عنه ، فسار إلى دمشق فترددت الرسل بينه وبين أخيه الملك الكامل في الصلح ، فاصطلحا واتفقا وسار الملك الأشرف إلى الملك الكامل ، واجتمع به فلما اجتمعا تردّدت الرسل بينهما وبين الانبرور ملك الفرنج دفعات كثيرة ، فاستقرَّت القاعدة على أن يسلموا إليه البيت المقدس ومعه مواضع يسيرة من بلاده ، ويكون باقي البلاد مثل الخليل ونابلس والغور وطبرية وغير ذلك بيد المسلمين ، ولا يسلم إلى الفرنج إلا البيت المقدس ، والمواضع التي استقرَّرت معه ، وكان سور البيت المقدس خرابا قد خربه الملك المعظم ، وقد ذكرنا ذلك ، وتسلم الفرنج البيت المقدس ، واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه ، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه يسر الله فتحه ،وعوده إلى المسلمين بمنه وكرمه آمين .

أي أن الكامل أضاع جهاد المسلمين منذ عدة عقود ومنذ أيام عماد الدين ثم نور الدين زنكي ثم صلاح الدين الأيوبي، الغريب في الأمر أن هذه الاتفاقية سبقها عرض من الكامل نفسه الذي عقد تلك الاتفاقية للصليبيين فعرض عليهم عندما قاموا بمهاجمة مصر بتسليم بيت المقدس ومعظم بلاد فلسطين التي استردها صلاح الدين منهم مقابل الجلاء عن مصر!! لكنهم رفضوا وقالوا لا مفاوضات إلا بعد أن نهزم المسلمين ونذلهم ونخضعهم!! لكن تلك الحملة على مصر فشلت فانهزموا ولم تعقد الاتفاقية.

فشل الكامل في اقناع كل الشعوب والحكام الاسلامية بجدوى تلك الاتفاقية كما حدث مع السادات، ونلاحظ من نص ابن الأثير دخول جماعة من المسلمين في طاعة الصليبيين منذ قدومهم على بلاد الشام، مما جعل الصليبيين يشعرون بالقوة والتمكين، وهؤلاء هم الخونة في بلادنا، يهزموننا بأكثر مما يفعل الأعداء، كما نلاحظ وجود النزاع واستمراريته بين القوى الإسلامية المتناثرة المتناحرة وهو ما يفقدنا الوحدة والقوة ويفسح المكان للقوى الخارجية على أراضينا وفي بلادنا، وبقدر ما يختلف حكامنا بقدر ما تتسع المساحة التي يحتلها الأعداء في أراضينا.

والواقع أن التجربة أثبتت في كثير من الأوقات خاصة في العصور الحديثة أن العرب ينهزمون في المفاوضات بأكثر مما يحدث في ميدان المعركة كما جاء في كتاب العقل العربي، وهذا صحيح نظرا لأن الحكام العرب لا يختارون المفاوضين بناء على حنكتهم وخبراتهم بل بناء على ولائهم وانتمائهم السياسي، كما أن العقل العربي يميل إلى الملل بأكثر مما يفعل الآخرون فلا يحتملون طول المفاوضات كما يحتمل الجندي طول المعركة.

فهل ما فعله الكامل أدى إلى تفكيك الجبهة الداخلية وتمزق وحدة وقوى المسلمين كما فعلت كامب ديفيد التي حيدت مصر من الصراع وعرت العرب والمسلمين تماما أمام الغزو الصليبي الصهيوني؟الواقع بأنه قد نقم الجميع على اتفاقية الكامل، لكنه ضمن في ذات الوقت عدم مهاجمة الصليبين للمسلمين لمدة عشرة أعوام وعدم قدوم أية حملة صليبية جديدة على بلاد المشرق، وجعلت الكامل يتفرغ لتوحيد الصف من جديد حيث كانت قوى الدولة الإسلامية التي كان صلاح الدين قد وحدها تحت قيادته قد تفتتت بعد وفاته وأراد الكامل من عقد هذه الاتفاقية أن يتفرغ لتوحيدها مرة أخرى، ورغم ذلك لم تقبلها الشعوب ولا القادة المسلمين في وقتها، واعتبرت هفوة في تاريخ الكامل الطويل في النضال ضد الصليبيين.

على عكس كامب ديفيد التي فككت الوحدة الإسلامية، التي منذ ذلك الوقت لم تعد لتلتئم مرة أخرى ورمت بالدول والأنظمة الإسلامية في أحضان أمريكا!!، لقد خرجت مصر من الصراع، و تناثرت الأمة بعد التحام وتفتتت بعد تماسك، وهذا ما لم تفعله اتفاقية الكامل التي أرادت توحيد مصر والشام في الصراع وهو ما ثبت صحته بعد ذلك من مجربات الأحداث.

سخطت عامة الشعوب الإسلامية على الكامل تسليمه بيت المقدس في مقابل هدنة مدتها عشر سنوات يمتنع فيها الصليبيون عن إرسال أية حملات جديدة على بلادنا لمدة عشر سنوات، وانتقد العلماء والخطباء الكامل في المساجد وفوق المنابر وفي الكتب، وقال الفقيه ابن الأهدل: وللكامل هفوة جرت منه عفا الله عنه وذلك أنه سلم بيت المقدس مرة إلى الإفرنج اختيارا، نعوذ بالله من سخط الله وموالاة أعداء الله!!!

ان كان تسليم بيت المقدس موالاة لأعداء الله في رأي فقهاء ذلك العصر فماذا يمكن أن نسمي ما يحدث اليوم من تسليم كامل الأوطان وخيراتها ومقدراتها وليس بيت المقدس فقط!! ترى لماذا أختلف علماء ذلك العصر عن علماؤنا الأن!! ولما اختلفت الأراء ذلك الاختلاف الواسع بين علماء ذلك العصر وعلماؤنا – أبواق السلطة – الآن؟!!

وعندما زار الملك فريدريك الطرف الثاني للمعاهدة مع الكامل لبيت المقدس بعد استئذان الملك الكامل وجده السكان يتحدث العربية! ولم يكن هذا غريبا في ذك العصر اذ كان كثير من الصيبيين يتحدثونها فقد كانت لغة العصر والحضارة في ذلك الوقت، أما السادات حينما زار أمريكا لتوقيع الاتفاقية فقد كان يتحدث الانجليزية، فقد تبدلت الأحوال، وانهارت اللغة وشتان بين الأمس بين ملك صليبي يتحدث العربية وبين اليوم حاكم مصر يتحدث الانجليزية!!

ثمة فارق كبير للغاية بين اتفاقية السلطان الكامل مع الصليبيين واتفاقية السادات مع الإسرائيليين، إذ كان البيت الأيوبي الحاكم لمصر والشام في مرحلة انقسام أحس بها الكامل، ووقع الكامل الاتفاقية لكي يتفرغ لتوحيد الإمارات الأيوبية المتناحرة في الشام تحت سلطته من جديد لكي تعود الوحدة لمصر والشام تحت قيادة واحدة. أما اتفاقية كامب ديفيد فقد تم التوقيع عليها من جانب السادات منفردا وكانت كل القوى الإسلامية في مصر والشام والجزيرة العربية والمغرب العربي موحدة، فأتت هذه الاتفاقية لتقضي على تلك الوحدة ومازلنا نعانى مرارة هذا التفكك حتى الآن.

لذا فقد كان من السهل استعادة بيت المقدس بعد انتهاء الاتفاقية بل ومناطق أخرى لم يستطع المسلمون تحريرها من أيام صلاح الدين من الصليبيين فقد استسلمت عسقلان للجيش المصري 1247م بعد الاستيلاء على بيت المقدس، على يد الصالح أيوب الذي تولى الحكم بعد وفاة الكامل.

أما اتفاقية كامب ديفيد فلم تمهد لوحدة، ولا لنصر، بل كانت خرابا مدمرا مدويا مازلنا نتجرع مرارته حتى اليوم، رمت بفلسطين في أحضان اليهود، ورمت بالعرب في أحضان أمريكا، وأخرجت مصر من قلب العرب، ومن حكم مصر بعد السادات لم يكن كمن حكم مصر بعد الكامل، إذ كان الصالح أيوب رجلا يضع الإسلام في قلبه والمسلمين كل همه، له تاريخ مشرف في الحكم، حتى وهو يصارع الموت كان يدير شئون المعركة التي تدور على أرض مصر مع الصليبيين، لكن مبارك ومن اليوم الأول قام بتسليم مصر إلى أعدائها، فباع لهم الغاز مجانا، وباع لهم كرامة مصر و المصريين بالكرسي فإسرائيل تقتل المواطنين المصريين على الحدود بدم بارد ومبارك يتفرج، وأمريكا تقتل المواطنين في قناة السويس بأسلحة محرمة دوليا ولا من مدافع عنهم، وأغرق مصر بالديون وسمح للبنك الدولي بالتدخل بشكل سافر في شئون مصر فأملى عليها ما شاء حتى خربت الديار ولم يعد المواطن يجد رغيف الخبز ليأكله، وانتهكت الشرطة كرامة المواطنين وتولى المناصب العليا الموالين فقط من رجال الشرطة والجيش فسقطت مصر في بئر من المحسوبية والفساد والخراب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لا قرار له.

نعم تشابهت الاتفاقيات من حيث الانفراد بتوقيعها من جانب الحاكم مع القوى المعادية في فلسطين، لكن الفارق بين الأهداف والرجال كبير، فمن يقارن الكامل بالسادات؟ ومن يقارن خليفة الكامل الصالح أيوب بخليفة السادات مبارك؟ ومن يقارن أهداف الرجال في تلك الفترة الذين حملوا هم الأمة والإسلام بأهداف الرجال في الفترة الحالية الذين حملوا هم الكرسي والعرش بأي ثمن ومهما كانت النتائج.

اتفاقيتان متشابهتان من حيث المظهر دون الدخول في تفاصيل الاتفاقيات وما تحتويه!! فهذا شئ أخر، شئ مختلف تماما ومخزي للغاية لمن وقع على اتفاقية كامب ديفيد، تشابهت الاتفاقيتان أيضا من حيث ظروف وجود الأعداء في بيت المقدس وما حولها، لكن الاختلاف بين القادة والحكام جعل التشابه أعظم ما يكون اختلافا.

ليست هناك تعليقات: