الأربعاء، 30 يوليو 2008

الخــونـــة 5


الخــونـــة 5

في كل دور من أدوار الصراع حول القدس والممالك المجاورة لها أيام الحروب الصليبية يظهر الخونة، وكلما ظهر قائد جديد واستطاع اكتساب ارض جديدة في المعركة وجد المشروع الإسلامي مقاومة من ناحية أخرى، فالمسألة قد تصطدم بالمصالح الشخصية للخونة وكراسيهم، فقد يكونوا مشجعين ومؤيدين لمحاربة المحتل الصليبي من المنطقة، وعندما يكتشفون بأن المسألة تحتاج إلى تضحية من نوع ما قد تصلى إلى الكراسي هنا قد ينقلب منهم البعض على ماضيه ومبادئه، ويتحول إلى خائن لأمته. وسبحان من بيده القلوب يقلبها بين إصبعيه كيف يشاء.

المخلص مبتلى أيضا، فقد مات نور الدين زنكي وترك ابنه الصغير القاصر وأرسل صلاح الدين الأيوبي أقوى أمراء الزنكيين بحقه في الوصاية على ابن نور الدين والمملكة الواسعة التي تركها له أبوه. لكن حكم صلاح الدين لمصر وموت نور الدين جعل موازين الحكم تنتقل من الشام إلى مصر، والواقع أن الشام كانت قد أنهكت من طول الصراع مع الصليبيين، وهدرت الكثير من مواردها في هذا الصراع، بالإضافة إلى أن ولاءات الحكام وسرعة تبادل الأدوار وتغيرها في الشام جعلها تفقد جزءا هاما من حيويتها، انتقال زمام الأمور وثقل السلطة إلى مصر جعل الأمور تتغير، تستقر من أحسن إلى أحسن، فقد كان لمصر الكثير من الموارد الطبيعية والبشرية ولم يكن ينقصها سوى القليل من الإدارة والحنكة السياسية والإخلاص في الجد لطرد الصليبيين.

كان أمام صلاح الدين إذن الكثير من العمل فقد أثار حفيظة الشيعة بتحويله لمصر إلى المذهب السني، وأثار حفيظة الصليبيين باختطافه لمصر من بين أيديهم بعد أن كانت جيوشهم فيها وكانوا قاب قوسين أو أقل من احتلالها، بالإضافة إلى انه كان مستهدفا من الإسماعيلية الحشاشين الذين أرادوا قلته أكثر من مرة، وكانت مصر في حاجة إلى الكثير من العمل للعودة للنهوض باقتصادها وأحوالها التعليمية والفكرية مرة أخرى، لكن صلاح الدين المبتلى كان على قدر الابتلاء، فقد كان رجل عمل وعقل وحكمة وتدبير.

كان أسلوب عمل فرقة الحشاشين خيانة للأمة بالعمل على قتل عظماء قادة المقاومة الإسلامية، وكان اتصال الشيعة في مصر بالصليبيين للتأمر على صلاح الدين وعمل انقلاب ضده في الداخل ومهاجمة الصليبيون لمصر خيانة، وكانت هي أهم ما واجهه صلاح الدين في البداية فأجل مسألة فرض وصايته على ابن نور الدين زنكي حتى يتخلص من تلك الخيانات القاسية، فقبض على زعماء الشيعة المتآمرين في مصر، وهاجم الصليبيون الذين هاجموا مصر بقوة وشراسة وكبدهم خسائر فادحة وهرب من نجا منهم، ثم اتجه لتصفية الحشاشين وقتل الكثيرين منهم وعفا عن البعض.

حصل صلاح الدين على الوقت الكافي لإعادة القوة الاقتصادية والعلمية لمصر فأعاد ترتيب الأمور فيها وكان عليه أن يقوم بالخطوة التالية وهى ما حارب من اجله عماد الدين ونور الدين من قبل، أن يبني على ما قدماه هم، وهو توحيد جبهة الشام مع مصر، وهنا كانت خيانة أخرى، ولا غرو أن تكثر الخيانات فقد انتقل مركز الثقل من الشام لمصر ومعها تحرك الكثير من الأشياء هنا وهناك وتباينت المصالح، فقد تنازع الأمر على السلطة معه أمراء البيت الزنكي وهنا ظهرت خيانات أخرى، وعجبا فإنها كانت من البيت الزنكي، ان للكراسي لحلاوة قد تسلب العقول رزانتها وحكمتها، فقد تحالف أمير حلب وأمير الموصل من البيت الزنكي مع الصليبيين والحشاشيين للقضاء على صلاح الدين حفاظا على كراسيهم، إن للمناصب والكراسي ثمن فادح تدفعه الشعوب في غالب الأوقات، لكن الخونة أيضا يدفعون المزيد في الدنيا والآخرة.

لكن صلاح الدين كان من الذكاء والحكمة والقوة بحيث واجه كل التحديات في سبيل نجاح مشروعه، فقد حارب الزنكيين وانتصر عليهم وأرسل للخليفة يطلب إقراره على لقبه الجديد ملك مصر والشام فوافق له الخليفة على هذا، لكن غازي ملك الموصل مارس الخيانة وتحالف مع الصليبيين واتفقوا على مهاجمة صلاح الدين مرة أخرى بضراوة للقضاء عليه، لكن صلاح الدين انتصر عليهم انتصارا قاصما لأحلام الخيانة، وبعد صراع استمر أكثر من ست سنوات استطاع ضم الشام لمصر لتوحيد الجبهتين وبداية عصر جديد لطرد الصليبيين من المنطقة بعد أن تم القضاء على الخونة وهو أكثر ما أعاق ظهور هذا العصر.

ليست هناك تعليقات: