الأربعاء، 30 يوليو 2008

الخــونـــة 3

الخــونـــة 3

التاريخ يكتب عن الخونة، وعن الأبطال أيضا، لكن ذاكرة الناس لا تتسع إلا للأبطال، أما الخونة فمع الوقت ننساهم، وتذهب ذكراهم مع الأيام، ولولا ما نستفيده من دروس الخيانة ما ذكرهم أحد، ولا كتبت عنهم أيضا، فإن ذكرهم بغيض على النفس، لكن فيه دروسا للخونة الموجودين على الكراسي الأن ليعرفون كيف ستذكرهم الأجيال القادمة، ودروس أخرى نستفيد منها أيضا.

معين الدين أنز أحد الخونة، ظهر في فترة بدايات وجود أبطال التحرير المسلمين أثناء الحروب الصليبية، فقاومهم، وقاوم مشروع الوحدة الإسلامية، كما ناصر الصليبيين، وكان حجر عثرة ضد مشروع طرد الصليبيين من المنطقة.

ظهرت مواهب معين الدين أنز مبكرا في مقاومة جيش التوحيد بقيادة زنكي ففي سنة 529هــ بينما لم يكن لمعين الدولة أية سلطة أو ذكر في التاريخ، اتفق عماد الدين زنكي بطل التحرير على أن يتسلم مدينة دمشق من حاكمها شمس الملوك، وذلك في إطار جهود زنكي لتوحيد جبهة البلاد الإسلامية في مواجهة الصليبيين، لكن شمس الدين مات قبل أن يسلم دمشق لزنكي، ورفض شهاب الدين خليفة شمس الدين تسليم دمشق فقرر زنكي إعلان الحرب على دمشق للاستيلاء عليها بالقوة، وهنا ظهرت بطولة معين الدين مبكرا كقائد من قوات شهاب الدين المناهضة لوحدة المسلمين تحت راية واحدة للوقوف في وجه الصليبيين، وربما كانت بطولته المبكرة تلك هى ما أهلته ليكون زعيم حزب الخونة في ذلك العصر والمكان. أبدى معين الدين بطولة فائقة اذن ضد جيش عماد الدين زنكي، وأظهر معرفة كبيرة بأمور الحرب والقتال ومقاومة الحصار وهو ما أهله لعلو شأنه والوصول إلى مراتب الحكم في تلك المدينة وفي غيرها. ولم يستطع زنكي فتح المدينة لوصول أمر من الخليفة المسترشد بالله يأمره بهذا.

بعد تلك الواقعة بعام، وفي سنة 530هــ ، ونظرا لإلحاح زنكي في ضم حمص وكثرة حصاره لها والإغارة عليها فقد قرر حكامها أولاد الأمير خير خان بن قراجا تسليمها لوالي دمشق شهاب الدين، على أن يمنحهم تدمر بدلا منها، فوافق شهاب الدين، ولم يجد أفضل من معين الدين لكي يوليه عليها نظرا لما أظهره من شجاعة وقوة ومعرفة أثناء حربه مع زنكي في دمشق. وكاتب شهاب الدين زنكي في الصلح، وجرى الصلح بينهما واستقرت الأمور في حمص لمعين الدين أنز وأصبح لديه الوقت لاكتساب مزيد من القوة والتنظيم داخل حمص المدينة التي أصبح حاكما عليها لأول مرة وليكتسب الخبرة في شئون الحكم.

وللمرة الثانية يجري القتال بين الطرفين، زنكي ومعين الدين، فقد حاول زنكي الحصول على حمص لضمها لجبهة التحرير الإسلامية، وليشكل قوة كبرى من المدن الإسلامية في مواجهة الصليبيين، ورغم أنه حاول مع معين الدين أنز بالوعد مرة و بالوعيد مرة أخرى، إلا أنه لم يستطع نتيجة مقاومة معين الدين، ومرة أخرى يظهر أنز القوة في مواجهة مد جيش التحرير الإسلامي ويظل حجر عثرة في سبيل تقدمه وتوحده.

وأخيرا جاءت الفرصة الكبرى التي كان يتمناها معين الدين أنز، فقد مات شهاب الدين حاكم حمص ودمشق، اغتيل من أقرب المقربين له، فكتب معين الدين لأخيه حاكم بعلبك يخبره فيه ما حدث ويطلب منه الحضور فحضر، وزجه من أمه وأعطاه تفويضا مطلقا في التصرف في أمر دولته بكاملها، ليصبح هو حاكما شرفيا، وليكون الأمر بكامله بيد معين الدين، وبهذا تشكلت جبهة كبيرة يقودها معين الدين أنز ضد جبهة التحرير الإسلامي التي يقودها زنكي، فوقف ضد المشروع الإسلامي تماما كما يقف مبارك الآن، بل وفعل ما فعله مبارك أيضا من التحالف مع الصليبيين ضد المسلمين وكأنه للخيانة خط واحد يسير فيه كل الخونة، الفارق الذي بينه وبين مبارك أن أنز أحسن السيرة في الرعية، وسير شئون البلاد بشكل جيد، وهو ما يجعله يتفوق على مبارك في السيرة وحسن الإدارة، وكلاهما خائن.

حاول زنكي مرة أخرى أن يحصل على دمشق، بأن يغري أنز أن يسلم له دمشق ويعطيه في مقابلها جزيل العطاء، لكن أنز رفض، فاتجه زنكي إلى بعلبك وقاتلها قتالا شرس، واستولى عليها بالقوة من أنز، ولم يتبقى في يد أنز إلا حمص ودمشق، الغريب أن أنز رغم إرسال قواته للاستغاثة وطلب المدد من أنز لم يرسل لهم أنز أية قوات أو معونات لمساعدتهم؟ فهل التخلي عن الأعوان والمساعدين من صفات الخونة؟ أظن هذا، فقد ركز أنز قواته لحماية مدينته ولم يشأ أن يشتت قواته فتسقط كل مدنه، واثر التضحية بأحدها على أن يظل قويا هو في مركزه، وسقطت بعلبك وشكلت أحدى مدن المقاومة الإسلامية ضد الصليبيين.

وفي سنة 534 هــ، قرر زنكي الحصول على دمشق، فقد كانت بوابة المواجهة مع الصليبيين وبقائها فى يد أنز الممالئ للصليبيين يشتت الكثير من جهوده في محاربتهم، جهز زنكي جيشه لحصار دمشق، ودخل معهم في مناوشات انتصر فيها جيش زنكي انتصارا مبشرا بالنصر، فخاف أنز من سقوط مدينته في يد زنكي، وهنا حدثت الطامة، فقد أرسل أنز للصليبيين يستعين بهم في قتاله ضد زنكي، وكما نصح مبارك للأمريكان فى حربهم للعراق وافغانستان فقد نصح أنز للصليبيين وخوفهم في مراسلاته بأن استيلاء زنكي على دمشق لا يجعل لهم قرارا ولا موطنا فى مدنهم، فهم ان لم ينصروه ضد زنكي سقطوا معه، وكان أنز من الخيانة أيضا بأن يعقد معهم حلفا للعمل والتحرك والحرب ضد زنكي، ووعدهم بأنه إن تخلص من زنكي سار بجنده إلى بانياس فأسقطها ومنحها للصليبيين هدية لهم على نصره إياه.

وهكذا تتشكل الخيانة، ففي البداية، وقف ضد تيار التحرير الاسلامي، وعندما سقطت بعلبك ترك رجالها يواجهون زنكي ولم يرسل لمساعدتهم رغم أنهم من رجاله المخلصين الذين قاوموا زنكي بأوامره وتركهم لمصيرهم بعد تورطهم في الحرب، الآن وبعد أن حوصر في مدينته ظهرت الخيانة واضحة قاتمة بوجه كالح وعيون قاسية، فكلما تورط الخائن كلما تساقطت ألأوراق، وكلما أصبح محيطه الذي يتولى أمره فى خطر أكبر، وهكذا تورط الشعب المسلم فى دمشق في خيانات أنز في تحالف سئ مع الصليبيين ضد زنكي وجيشه، إلا أن زنكي عندما علم بالأمر تحرك لقتال الصليبيين قبل قدومهم والتحامهم مع قوات أنز، أثر الصليبيون السكون وعدم التحرك خوفا من قوة زنكي.

بعد تحرك زنكي عن الصليبيين كانت الفرصة مواتية لأنز كي ينغمس أكثر في خيانته مع الصليبيين، فهاجم بانياس التي كانت ضمن المدن التي يحكمها زنكي، وذلك بالاتفاق ومساعدة الصليبيين، وحاصرها وضيق عليها ولما سقطت سلمها للصليبيين هدية لهم على مناصرته إياه، وهكذا أصبح المشروع الصليبي يجد من يناصره بقوة السلاح ويقف في وجه المشروع التحرري بقيادة زنكي الذي هاجم دمشق مرة أخرى لتحريرها من هذا الخائن، لكنه مرة أخرى لم يستطع أن يسقطها.

استقر الحكم لأنز إذن بمساعدة الصليبيين، فهل يستمر حكمه رغم الدعم القوى من المشروع الصليبي الذي تقف خلفه كل دول أرويا؟ التاريخ يعلمنا أنه لا، {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (109) سورة التوبة، فقد حضرت الحملة الصليبية الثانية بقيادة ملوك ألمانيا وفرنسا، جاءت الحملة لتحرير الرها التي سقطت في أيدي المسلمين، وأحدث سقوطها دويا هائلا في أرويا، كان من المتوقع أن يكافئوا هذا الحليف الوحيد لهم في المنطقة، لكن العكس حدث، فقد استخفوا به وخافوا من مواجهة زنكي {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} (65) سورة الأنفال، وهكذا كانت نقطة الضعف المتاحة للمشروع الصليبي هو حليفهم الذي فضلوا إسقاطه وضم ممتلكاته بدلا من الاصطدام مع مشروع قوي قد يخسرون في الرهان ضده.

اضطر أنز الذي يقول عنه صاحب الكامل (وكان معين الدين عاقلَا عادلاً خَثراً حسن السيرة ، فجمع العساكر، وحفظ البلد) اضطر أن يخاطب زنكي ويطلب منه المساعده، وهو الذي طالما وقف ضد مشروعه في توحيد الصف الاسلامي للوقوف في وجه الصليبيين، سقط أنز في الاختبار اذن، ووقف زنكي داعما لأنز كي لا تسقط دمشق في يد الصليبيين فأنذرهم بالحرب ضدهم ان هم لم يكفوا يدهم عن دمشق فانسحبوا!!!

ومات معين الدين أنز سنة 544هــ تاركا كل ما جمعه من ملك ومال ليقابل ربه في انتظار يوم الحساب، ومنذ ذلك التاريخ لم يعد أنز للدنيا ولا للملك، ولا أظنه يعود فقد ذهب ذهابا سنذهبه نحن أيضا، خالدا فيه أبدا لا عودة منه، فهل تساوي الدنيا بما فيه ان نضحى من أجلها بهذه الرحلة الأبدية، البعض كأنز ومبارك يقولون نعم، وكلنا نقول لا.

وبانياس التي استولى عليها أنز من المسلمين وسلمها للصليبيين استردها نور الدين زنكي خليفة عماد الدين، وكان من بين جيشه ابن معين الدين أنز فقال له نور الدين: للمسلمين بعد الفتح فرحة واحدة ولك فرحتان ، فقال : كيف ذاك ، قال : لأن اليوم ، برد الله جلد والدك مِنْ نار جهنم، وقانا الله من الخيانة ومن نار جهنم.
وجه الشبه بين مبارك وبينه، أن كلاهما خائن، لكن أنز كان عاقلا، عادلا، حسن السيرة والتدبير في المدن التي يحكمها، أما مبارك فلا، فقد جمع لخيانته سوء السيرة و الإدارة، والشهرة بين الناس بالسرقة والتلاعب بأقوات الشعب. وهذا هو الفارق بين خائن أيام عز فيه الإسلام ودولته، وخائن في أيام انهيار الحضارة الإسلامية.


ليست هناك تعليقات: